INTERNATIONAL COUNCIL
SUPPORTING FAIR TRIAL and
HUMAN RIGHTS

Registration No. : 2795

Follow us

  • rss
  • twitter
  • facebook
  • youtube
  • instagram

تدويل الأراضي المقدسة في الحجاز بين التأويل السياسي والتنزيل الديني

بدأت تتعالى الأصوات من البلدان الإسلامية تنادى بتدويل مكة المكرمة والمدينة المنورة ، والتدويل المعني هنا ليس تدويل دولي بإشراف الأمم المتحدة ، ولكن التدويل يكون بين البلاد الإسلامية ، وبمعنى أكثر وضوحاً عدم احتكار المملكة العربية السعودية للإشراف على الأراضي المقدسة ، فيكون لكل الدول الإسلامية إشراف إما من خلال هيئة منبثقة عن منظمة المؤتمر الإسلامي أو تداول الإشراف بين الدول الإسلامية ، كل عام تقوم دولة بالإشراف 

لقد تعالت الأصوات المنادية بتدويل الأراضي المقدسة بعد حادث جسر الجمرات الذى مات بسببه عشرات الحجاج وجرح المئات ، كذلك بعد أن قامت السلطات السعودية بمنع سبعة آلاف حاج عراقي مبررة ذلك مرة لأن هذا العدد يفوق حصة العراق من حجاج بيت الله الحرام ، ومرة لأن تمثيل الحجاج في العراق جاء على أساس طائفي أي أن كل هؤلاء الحجاج من الشيعة ، ورغم عدم شكوى سنة العراق ، إلا أن السلطات السعودية منعتهم ، الأمر الذى حدا بإبراهيم الجعفري رئيس الوزراء العراقى أن ينادي بـالتدويل وكسر هيمنة الإشراف السعودي على الأماكن المقدسة

وقد كان العقيد معمر القذافي قد نادى بمثل هذا الطلب قبل عشرين عاماً ، ولكن السياسة الدولية والتغييرات فى المنطقة حالت دون تحقيق هذا النداء المهم والذى من الممكن الآن ولو على مراحل

رعاية الأماكن المقدسة بين الشرعية السياسية والحكمة الدينية

منذ أن بنى إبراهيم عليه السلام الكعبة المشرفة في مكة المكرمة ، وصارت مكة لها قداسة دينية في نفوس العرب الذين هوت أفئدتهم لزيارتها ، وصارت القبيلة القرشية تستمد من البيت الحرام القداسة الدينية والشرعية السياسية في نفس الوقت

وصارت مكة أعلى البلاد شأناً فى الجزيرة العربية لمكانة البيت العتيق ، وعندما أشرك القرشيون ووضعوا الأصنام حول الكعبة ، أشرك باقي العرب كذلك ، فصارت قريش قائدة فى التوحيد الإبراهيمي ، ثم قائدة في الشرك كذلك وفي كلتا الحالتين استمدت قريش نفوذها السياسي والاقتصادي من الكعبة ، أي أن السياسة احتكرت الدين وسخرته لخدمتها ، وقد استمر هذا الوضع حتى ظهور االإسلام ببعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم 

ظل النبى الأعظم ثلاثة عشر عاماً يدعو أهل مكة بدعوة التوحيد ، ولم يستجب للدعوة إلا قليل ، وظل القرشيون يستمدون نفوذهم السياسي من الكعبة ، وكانت خشيتهم على النفوذ السياسى والاقتصادي أكبر الدوافع لامتناعهم عن قبول الدعوة ، فقد ظل أبو جهل على سبيل المثال طوال عمره لا يرى فى رسول الله إلا رجلاً من بنى عبد مناف يريد الاستحواذ بالسلطة والتنافس على السيطرة السياسية على مكة ، لم ير فى الدعوة الإسلامية غير هذا المفهوم القبلي الضيق ، وأبو سفيان بن حرب رغم أنه من بنى عبد مناف إلا أنه رأى فى الدعوة قضاءاً مبرماً على النفوذ السياسي الذى تمثل فى الفرع الأموى من بني عبد مناف ، وقضاء على النفوذ الاقتصادي الذى كان يتزعمه أبو سفيان بن حرب وظل الصراع دائراً بين الفئة الإسلامية القليلة العدد ، والنفوذ القرشي الواسع الامتداد والنفوذ والسيطرة 

وأذن الله للنبى بالهجرة إلى يثرب ومعه كل المسلمين ، وأطلق المسلمون على يثرب اسم المدينة المنورة ، أو مدينة رسول الله التى تنورت وتشرفت به ، وكانت المدينة تشكل أولى المراحل فى مسيرة وكيان الدولة الإسلامية عبر القرون الممتدة ، وأضحت مقدسة لأن الله اختارها لمرقده الشريف ، ومن ثم صار الحجاز الذى يشمل المدينة المنورة ومكة المكرمة هى الأماكن المقدسة لكل المسلمين ، وكل دولة خلافة تستمد شرعيتها من ادارتها ورعايتها للأماكن المقدسة فى الحجاز 

لكن النبي الكريم لم يقم بالحج إلا بعد أن أزال الأصنام أولاً من حول الكعبة عندما قام عليه الصلاة والسلام بفتحها ، ثم بعد أن نزلت سورة براءة أو سورة التوبة والتى أداها وقرأها علي بن أبى طالب فى موسم الحج عام 9 هجرية ، حيث أعلن أن حج هذا العام (عام 9 هجرية) هو آخر حج يقوم به المشركون ، ولا يطوف بالبيت عريان ، وأن يلتزم الجميع بمناسك الحج التى أداها إبراهيم عليه السلام

وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة عام 10 هجرية هى حجة الوداع ، فقد صارت مكة المكرمة تحت السيادة الإسلامية النبوية من الناحية السياسية والدينية على السواء، ولم يختلف الحال طوال العهد الراشدي فقد كانت السلطة الإسلامية فى المدينة تشرف على الكعبة والبلد الحرام وتقود الناس فى الحج فى المشاعر المقدسة ، ولم يحدث أي خلاف طوال الفترة التالية للفترة النبوية حتى فى أثناء اجتدام الفتنة وخروج معاوية بن أبى سفيان على خليفة المسلمين الشرعي علي بن أبى طالب ، فقد ظلت المدينة ومكة تحت إشرافه المباشر ، يعين الولاة عليها ليقوموا بخدمة تلك الأماكن وخدمة المسلمين أيضاً

رعاية الأماكن المقدسة فى العصر الأموي

بعد أن استتب الأمر لمعاوية آلت رعاية الأماكن المقدسة له ، فعين الولاة واعتبر سيطرته على المدينة ومكة تكريس لشرعيته السياسية ، ودام هذا الوضع طوال عصر ابنه يزيد الذي لم يرتدع عن قتل الحسين بن علي فى كربلاء ، ثم استباح المدينة المنورة فى واقعة الحرة الشهيرة ، عندما قام أهل المدينة المنورة بالثورة على يزيد بسبب مصرع الحسين ، فما كان من جيشه إلا ان استباح مدينة رسول الله وانتهكت الأعراض وقتل الصحابة وأبناؤهم فى المدينة المقدسة ، واعتبر يزيد هذا نصراً سياسياً ، واعتبر فرض سيطرته السياسية على الحجاز يضمن الشرعية لحكمه

ولكن الحجاز انتفض بعد يزيد وخاصة خلال عصر عبد الملك بن مروان ، ذلك أن عبد الله بن الزبير تمكن من السيطرة على الحجاز ، ونودى به أميراً للمؤمنين ، واعتبره بعض المؤرخين خليفة شرعياً لأن نفوذه امتد إلى معظم الولايات الإسلامية ماعدا الشام خاصة بعد ان اجتاح العراق وقضى على ثورة المختار بن عبيد الله الثقفي فى الكوفة ، وهي الثورة التى تمكنت من القضاء على كل من شارك فى مذبحة كربلاء ضد الحسين بن علي 

اختار ابن الزبير مكة المكرمة مكاناً لخلافته ، واعتصم بالبيت الحرام ، واعتبرت خلافته شرعية لأنه يفرض سيطرته على الحجاز ، ولكن الأمويين استطاعوا استرداد الولايات ، أخذوا مصر والعراق ، واعتبروا شرعيتهم الدينية والسياسية ناقصة طالما أن ابن الزبير يحكم الحجاز ، فقام عبد الملك بن مروان بإرسال جيش كثيف إلى مكة المكرمة بقيادة الوالي الأشهر الحجاج بن يوسف الثقفي فحاصر الكعبة التي لاذ بها ابن الزبير ، ولم يتورع عن ضربها بالمنجنيق حتى تصدعت جدران الكعبة ذاتها ، ثم دخلها وقتل بجوارها ابن الزبير ، ومثّل بجثته ، وبالتالي تم القضاء على خلافة أو ثورة ابن الزبير ، وصار الحجاز يسيطر عليه الأمويون

ولكن الأمويين رأوا أن أهل الحجاز يوالون العلويين وأنهم يكرهون الأمويين ، وأن ثورات الحجاز لا تنقضي ، ففكر الوليد بن عبد الملك الذي تولى الخلافة بعد أبيه أن يجدد بناء المسجد الأقصى ، وبالفعل قام ببنائه ، وبناء قبة الصخرة والتي كلفت خزانة الدولة إيراد أو خراج مصر لسبع سنوات متتالية ، لم يكن الوليد يريد صرف الناس عن البيت الحرام أو عن مدينة رسول الله ، ولم يكن يرغب بالطبع أن يفقد السيطرة الأموية عليهما ، ولكنه قدّر أن أي خارج عليه في الحجاز يمكنه السيطرة ولو لمدة محددة ، ولذلك فإن وجود المسجد الأقصى المبارك بعد بنائه وبعد بناء قبة الصخرة يعوض عن فقدان السيطرة على الحجاز المقدس ولو إلى حين

ولكن الخلافة الأموية انتهت سريعاً فلم تمكث إلا ثلاث وثمانين سنة ، وانهارت بعد بناء المسجد الأقصى بأقل من ثلاثين سنة ، ظلت خلالها تستمد الشرعية الدينية من خلال السلطة السياسية على الحجاز ، وكانت ترى كغيرها من الخلافات التالية عليها أن عدم فرض سيطرتها على الأماكن المقدسة نقص فى سلطتها الدينية والسياسية على السواء ، خاصة وأن خطيب مسجد نمرة يوم الحج كانت تعينه الدولة

الحجاز فى العصر العباسي

لما سقطت الخلافة الأموية وجاءت الخلافة العباسية كان من أولى اهتماماتها فرض سيطرتها على الحجاز لإضفاء شرعية دينية على حكمها السياسي ، ولذلك فقد أمر أبو جعفر المنصور بزيادة مساحة المسجد الحرام ، وعندما حج المهدي اصطحب معه أموالاً كثيرة واشترى الدور المحيطة بالمسجد وهدمها وزاد فى المسجد من جميع جهاته ، وعوض أصحاب تلك الدور بالأموال

وخطب المهدي فى نمرة يوم عرفة داعياً المسلمين إلى بيعته لأنه من عمومة رسول الله ، وقال ان رسول الله بشر جده عبد الله بن عباس بالملك أو الخلافة تكون فى نسله ، كما شن حملة شعواء على العلويين ، ولأن الحج يجتمع له الناس من كل بلد إسلامي ، قام الخليفة بالدعاية لنفسه ولبرنامجه السياسي المتلفح بالدين

ولذلك فعندما اعتنق الخليفة المأمون الفكرة القائلة بخلق القرآن شرحها لهم ، وظل هذا الوضع قائماً طوال عصر (المعتصم) و(الواثق) اللذين حكما بعد المأمون ، وخطب أحمد بن أبى دؤاد الوزير المعتزلي الشهير في مسجد نمرة يوم عرفة قائلاً إن القرآن يستحيل أن يكون كلام الله ، لأنه لو كان كلامه لكان معناه أن الله قديم ويأتى بصفة من صفات البشر وهى الكلام ، ولذلك فالقرآن مخلوق مثل أي شىء ، واتهم كل من لم يقل بخلق القرآن بالشرك أو العته أو المروق

الذى يعنينا من ذلك أن الدولة كانت تكرس مفهومها الديني والسياسي في موسم الحج الذى يجمع الأشتات من البشر ، ودوماً ما يكون خطيب الحج ممثلاً للدولة ، ولذلك ما أن مات الواثق وتولى المتوكل الخلافة من بعده حتى انقلب على المعتزلة وقبض على شيخهم ابن أبى دؤاد وأخرج الامام أحمد بن حنبل من السجن ، واعتبر بن حنبل هذا انتصاراً لسنة رسول الله

وبعد أن كانت خطبة الحج تدعو لاعتناق المسلمين للمذهب الاعتزالي صارت تدعو لنقيضها، فكان الخطيب يتهم كل من يقول بخلق القرآن ، إما بالشرك أو النفاق وهو انتصار لما يقوله خليفة المسلمين مهما كان اختلاف المسلمين حول مثل هذه القضايا

ولكن الدولة العباسية فى العصر الثاني لها صارت دولة ضعيفة يتحكم فيها الوزراء الذين أصبحوا يعينون ويقيلون الخلفاء ، ويفرضوا سيطرتهم الفكرية والدينية حسب المذهب الذي تعتنقه ، وقد أدى ذلك إلى جعل الحجاز تابع مذهبياً إلى الوزير الحاكم فى بغداد ، فحينما استولى البويهيون على بغداد استطاعوا أن يفرضوا نفوذهم على الخليفة العباسي فخلعوا المستكفي بالله وولوا الخليفة المطيع ، ولتأكيد نفوذهم السياسي فقد عملوا على حماية المذهب الشيعي الذى ظل مطارداً فكرياً طوال عهد الأمويين والعباسيين ، كما ظل علماء أهل البيت إما مطاردين أو مسجونين أو مقتولين ، وحاول بني بويه الانتصاف لأهل البيت ، فكانوا يقومون بالدعاية المذهبية ، وتكذيب الاشاعات والأكاذيب التى روجها أعداؤهم من الحكام ضد الشيعة عموماً ، ومن ضمن هذه الدعايات فرض النفوذ الديني على الأماكن المقدسة فى الحجاز فقاموا ببناء الأضرحة على مقابر أهل البيت ، ووصلت دعايتهم إلى مواسم الحج، فكان الخطيب لابد وأن يدعو لهم بعد الدعاء للخليفة العباسي 

ولكن الأمر لم يستقر على حال ، فما أن وصل السلاجقة ، وهم ترك من متشددي أهل السنة حتى قاموا بقتل الشيعة من جديد ، والخليفة العباسي لا يملك القدرة لا على الحكم ولا على المحاسبة ولا على اتخاذ القرار ، وكانت الدولة الفاطمية الناشئة تقوم بفتح الأمصار الإسلامية من المغرب حيث أسس عبيد الله المهدي الخلافة هناك ، فكان الفتح الفاطمي لمصر إيذاناً بتوسع هذه الدولة 

الحرمان الشريفان في العصر الفاطمي

قبل أن نتحدث عن الرعاية الفاطمية للحجاز لابد من التذكير بواقعة شديدة الغرابة ، ذلك أن دولة القرامطة التى حاربت الدولة العباسية تمكنت فى عهد أحد قوادها وهو أبو طاهر القرمطي من الاغارة على قوافل الحجاج والفتك بها حتى امتنع الناس عن الحج ، ثم قام أبو طاهر بقلع الحجر الأسود من الكعبة المشرفة سنة (317 هـ / 929م) ، وحاولت الخلافة العباسية إغراء القرمطى بالمال لكي يرد الحجر الأسود إلى مكانه فى الكعبة فأبى أبو طاهر، ولكن عبيد الله المهدي أرسل له من المغرب يأمره برد الحجر فرده إلى مكانه بالكعبة ، وكان ذلك إيذاناً باقتراب إشراف الفاطميين

على الحرميين فى الحجاز بعد فتح مصر 

لقد كان هم الفاطميين أن يُدعى لهم فى الحرمين بسبب أن أمير المؤمنين هو من كان ملكاً للحرمين ، والحقيقة أن الوضع فى الحجاز قبيل عصر الأمويين كان مرتبكاً ، فقد تحكم فى مكة أسرة علوية من نسل الحسن بن على وهم شيعة إمامية خطبوا لأنفسهم فى خلافة المقتدر العباسي ، ثم آل حكم مكة إلى الأخشيديين الذين كانوا يحكمون مصر ، أما فى المدينة المنورة فكانت أسرة علوية آخرى من نسل الحسين بن علي هي التى تحكم المدينة ، وحدثت فوضى فى الحج بسبب تنازع الأسرتين بمكة والمدينة 

وجد المعز لدين الله الفاطمي الفرصة سانحة لإشاعة السلام فأرسل الأموال الطائلة لشراء ديات المقتولين من الطرفين مما مهد لعقد السلام بينهما وذلك عام (348هـ/959م) ، وقد كان من ضمن أسباب سير الفاطميين الى الشرق عزم المعز تأمين الحج ، وحينما تم لجوهر فتح مصر فى عام 358 هـ / 968 م أعلن أمير مكة الخطبة للمعز على منابرها  ولما انتقل المعز من المغرب إلى مصر عمل على إرسال الكسوة إلى البيت ، وأصبحت عادة أن ترسل كسوة الكعبة كل عام من مصر حتى منتصف القرن العشرين

وظلت مصر الفاطمية تحكم الحجاز حتى سقوطها ، وعندما سقطت عاد العباسيون لحكم الحجاز ، ولكن هذه المرة كان يحكمها الأيوبيون ثم المماليك الذين كانوا يحكمون باسم الخليفة العباسي الذي انتقل مقر اقامته إلى القاهرة ، وظل الأيوبيون ومن بعدهم المماليك يفرضون سيطرتهم السياسية بامتدادها الديني

لقد كان التنافس على حكم الحجاز مستمراً بين الأسر الحاكمة خاصة العباسية والفاطمية وذلك لتوطيد نفوذهما فى دار الإسلام ، ولكن هذا التنافس انتهى بسقوط الفاطميين ؟

كان لظهور المماليك على الساحة السياسية بعد الأيوبيين أثراً على حكم الحجاز ، لأن المماليك كانوا عبيداً قبل أن تصير السلطة إليهم ، ولأنهم بدون صفة شرعية للحكم حاولوا اضفاء هذه الشرعية بحكم الحجاز ورعاية الحرمين الشريفين ، فقام الناصر محمد بن قلاوون فعَّمر الأساطين حول المطاف فى الكعبة ، كما عمر رخام الحجر ، ثم جدد برقوق المروة وأصلح درجها . ثم عمر السلطان قايتباى المدارس التى ألحقت بالمسجد الحرام وكان يدرس فيها علماء المذاهب الأربعة ، وأكد المماليك شرعية سلطتهم بالدعاء لهم على منابر الكعبة والمسجد النبوي وفي خطبة الحج يوم عرفة

الحرمان الشريفان فى ظل العصر العثماني 

ضعفت الدولة المملوكية فى الوقت الذى كان فيه آل عثمان الأتراك يتفوقون في الفتح والغزو، وكان أكبر انتصار لهم هو فتح القسطنطينية عام 1453م على يد محمد العثماني الذى لقب بالفاتح

كان ذلك النهوض العثماني يواكب النهوض الصفوي فى إيران ، ودخلت الدولتان فى صراع عسكري دام إنتهى باستتباب الصفويين فى شرق العراق ، واستتباب العثمانيين شمال الشام، ولقد غلف الطرفان الصراع بينهما على أساس طائفي ، رغم كونه صراع سياسى بحت حول النفوذ ، المهم أن سليم الأول العثماني أدرك منذ البداية أن شرعية حكمه لن تكتمل إلا باحتلال مصر وانتزاع الخلافة من الخليفة العباسي الذي كان مجرد رجل للتشريفات ليس إلا ؛ ولن يتسنى ذلك إلا بتقويض حكم المماليك ، وتقويض هذا الحكم يمهد الطريق لفرض سيطرتهم على الحجاز مهد الإسلام للدعاء إلى الخليفة العثماني خادم الحرمين الشريفين

وقد تمكن العثمانيون أخيراً من احتلال مصر عام 1517 م ، وانضمت كل الأملاك المملوكية إلى خليفة آل عثمان ، وصار الحجاز ضمن هذه الأملاك العثمانية ، وصار من التقليد الرسمي الدعاء لسلطان البرين وخاقان البحرين فى الآستانة ضمن الدعاء التقليدي للخليفة العثماني الحاكم

لقد مثلت الدولة العثمانية المرجعية الدينية والسياسية برعايتها للأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة ، وظلت مصر الولاية العثمانية تتولى إرسال كسوة الكعبة ، كما يقوم البناؤون والمعماريون المصريون بتوسعة الحرم المكي والمسجد النبوي وطبعاً ذلك بإشراف السلطان العثماني ، ففى عهد السلطان سليمان القانوني فى سنة 972هـ ، جدد سطح الكعبة المشرفة وفرش المطاف وأهدى المسجد منبراً رخامياً مطعماً بالمرمر ، وأنشأ المدارس الأربع فى الجهة الشمالية كما أقام منارة عظيمة الارتفاع

غير أن أهم عمارة فى عهد الأتراك كانت تلك التى تمت في عهد السلطان مراد عام 984هـ ، وضعت خطة معمارية تحت إشراف أحمد بك كتخدا حيث حلت القباب محل السقف الخشبي، واقتضى الأمر إقامة العديد من الأعمدة الرخامية 

وفى عهد السلطان عبد المجيد العثماني قرر عمل عمارة جديدة للمسجد النبوى الشريف التي بدأت سنة 1265 هـ واستغرقت نحو 13 سنة وانتهت في سنة 1277 وفيها زيدت مساحة المسجد 1294 متراً ، فأصبحت مساحة المسجد 10303 أمتار مربعة

وكانت تلك العمارة للمسجد النبوي من أضخم العمارات التى أجريت منذ أن أسسه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد استخدمت القباب عوضاً عن السقف الخشبي ، وزخرفت القباب بصورة طبيعية ، وأقيمت الأعمدة الرخامية تحمل عقوداً مزينة بالزخارف الجصية ، وتحمل العقود قباب المسجد

الأبعاد السياسية العثمانية فى رعاية مكة والمدينة

ظل ديدن كل الدول التى فرضت سيطرتها على الحجاز أن تقوم بعمارة الحرمين الشريفين لكي يذكر لها المسلمون هذه الرعاية فتنال شرعية دينية تواكب وتعزز الشرعية السياسية في حكم باقي الولايات التى تتشكل منها الدولة الحاكمة ، ولم تشذ الدولة العثمانية عن هذا التوجه الديني لتكتسب منه الدعم السياسي ، وبالفعل فإن العمارة العثمانية في مكة المكرمة ومدينة الرسول (ص) كانت من أكبر العمارات في التاريخ الإسلامي عموماً ، ومع ذلك فإن الدولة العثمانية بعد أن حكمت مصر وامتد نفوذها وسيطرتها على الحجاز ثم احتدمت الحروب بينها وبين الدولة الصفوية ، كانت تلك الحروب حروباً سياسية أضفى عليها الطابع المذهبي لتخفى الأطماع السياسية ، فانتشرت الدعاية التشويهية ضد الشيعة ، ومنع شيعة إيران من الحج في سنوات احتدام المعارك ، ولم تخفت هذه الحملة الا عندما تولى نادر شاه دولة فارس (إيران) وتحسنت الأوضاع بين الدولتين ، ولكن ظل المعيار المذهبي يفرض نفسه على السياسة العثمانية

شيعة العراق على الأخص ظلوا متهمين من قبل الدولة العثمانية ، ذلك أنهم أكثرية أهل العراق ، ولكنهم أقلية قليلة ضمن دولة الخلافة ، فكانوا يتهمون بالموالاة لايران ، فكانوا يهاجمون أو يمنعون من الحج أثناء احتدام الصراع  لكن ذلك خفت بعد ضعف الدولة العثمانية وبعد أن أطلق عليها رجل أوروبا المريض ، فالدولة البريطانية استطاعت أن تحتل الموانىء في شبه الجزيرة العربية فى عدن وهرمز والكويت وأن تفرض سياستها على الدولة العثمانية حتى فيما يتعلق بالسيطرة على الحجاز نفسه خاصة أثناء بروز الدولة السعودية الأولى, الذى يعنينا فى ذلك أن الأهواء السياسية والطموح السلطاني بالإضافة إلى الانحيازات المذهبية كان ومايزال لها وجود فى رعاية وخدمة الحرمين الشريفين ، وهو ما رأيناه واضحاً فى كل الدول التى حكمت تلك المنطقة المقدسة

 الرعاية السعودية للأماكن المقدسة .. رؤية نقدية 

يشكل عام 1744م منعطفاً تاريخياً في الحدود الزمنية والمكانية لشبه الجزيرة العربية بشكل عام ، وما يحيط بها من دول وكيانات سياسية ، ففي ذلك العام حدثت التحالفات بين محمد بن عبد الوهاب الشيخ النجدي ومحمد بن سعود أمير الدرعية حيث تمت عملية الاتحاد والمؤازرة بين الدين والسياسة فى الجزيرة العربية ليستفيد كلاهما بحسب اهتمامه وأهدافه ، فقد كان صاحب الدعوة مهتماً بنشر فكره ، أما حليفه صاحب الدرعية فهّمه يتعدى إلى الحكم وبسط السلطة على أكبر مساحة ممكنة بالمنطق الديني نفسه والعنوان الأيديولوجي المرفوع آنذاك . وبين التوحيد الديني – حسب المفهوم الوهابي – والتوحيد السياسي كانت المواجهات العسكرية والدينية تندلع من حين لآخر بهدف بسط الفكر والسلطة على امتداد جزيرة العرب وتعدت الحدود في كثير من الأوقات حيث وصلت القوات النجدية أو الوهابية إلى العراق والشام ، وكانت كل الغزوات والمعارك فى تلك الفترة تستحضر المبدأ والمنطلق الأيديولوجي فى كل تحركاتها بل تجعله هدفاً معلناً وسبباً فاصلاً للحرب والسلم ، واستمر هذا التلازم بين الهدفين استمر بقوة على مسار الحكم السعودي خلال الفترة التي استمرت حتى عام 1818 ، وهو العام الذي شهد سقوط الدولة السعودية الأولى بنهاية حكم الأمير عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود الذي أسر من قبل قوات إبراهيم باشا بن محمد علي الذي قاد حملة الدولة العثمانية ضد الحركة الوهابية في جزيرة العرب ، وانتهى بأسر الأمير عبد الله بإعدامه فى الآستانة

ملامح الاتجاه السعودي في الدولة الأولى تجاه الحرمين الشريفين

خلال فترة الدولة السعودية الأولى تجلى الفكر الوهابي بصورة واضحة ، ذلك أن محمد بن عبد الوهاب كان يرى أن زيارة أضرحة الأولياء الصالحين نوع من أنواع الشرك ، وكان يرى أنه من الضروري هدم هذه الأضرحة بالقوة ، وأعتقد أن الوهابية هم الفرقة الناجية الوحيدة

تمكن الوهابيون من فرض نفوذهم على نجد ، فكان أول ما فعلوه هو هدم ضريح زيد بن الخطاب فى بلدة الجبيلة ، كان ذلك قبل التحالف مع السعوديين ، ولكن التحالف السعودي – الوهابى قام بالزحف عام 1801م على رأس جيش من أهل نجد وبواديها إلى كربلاء بالعراق فقاتل أهلها واقتحمها ، وقتل من أهلها قرابة الألفين ، وهدم فيه ضريح الإمام الحسين ، وانتزعوا واستولوا على كل ما وصلت إليه أيديهم من كنوز كربلاء ومشهد الحسين الذى كان مزداناً بمقصورة مرصعة بالزمرد والياقوت والجواهر

وعندما استولى السعوديون على الحجاز قاموا بفظائع ، حيث قاموا بهدم مقبرة المعلى فى مكة المكرمة ، كما هدموا قبر السيدة خديجة ، أما في المدينة المنورة فقد هدموا الأضرحة المقامة فى البقيع ، وهدموا كل قبور أهل البيت المدفونين فيه ، هدموا قبر الامام زين العابدين السجاد والامام جعفر الصادق وأبيه محمد الباقر ، وامتد الى هدم وتدمير مسجد فاطمة الزهراء ومسجد المنارتين ، ومسجد المائدة وهو المسجد الذى بنى على المكان الذي نزلت فيه سورة المائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قاموا بهدم مساجد شهداء أحد ، وتدمير قبور حمزة ومصعب بن عمير وغيرهما من شهداء موقعة أحد ، كما دمروا مسجد الثنايا ، وهو المسجد الذي ضم ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم التى كسرت أثناء موقعة أحد

رأى الحجاج كيف تحول البقيع ومشاهد المدينة الى أطلال ، وصارت خراباً ، لا لشىء إلا لأن الوهابيين أرادوا ذلك وأرادوا إجبار المسلمين في اعتناق ما قالوا عنه بأنه الإسلام الحقيقي

لم يكتف سعود الكبير بما فعل بل أراد هدم قبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وخشى من رد فعل مسلمي العالم ورد فعل السلطان العثماني ، فلم يهدمها ، ولكن امتدت الأيادي الوهابية إلى الحرم النبوي ، فقد أمر سعود خدم الحرم النبوى بأن يخبروه عن خزائن حجرة النبي ، فرفضوا ، فجلدهم بالسياط وحبسهم وعذبهم حتى أخبروه ودلوه عليها ، وفيها تاج كسرى أنوشروان الذى غنمه المسلمون منذ أيام معركة القادسية ، وكذلك سيف هارون الرشيد ، وعقد من الذهب للسيدة زبيدة ، ويذكر الجبرتي فى تاريخه أن سعود الكبير أخذ السجاد الذي في المسجد النبوي وقناديل الذهب ، ثم ادعى أنه باعها وصرفها على الفقراء ، ولكن ما حدث هو أن أتباع ابن سعود تناهبوا هذه الكنوز ووزعوها على أنفسهم كغنائم حرب

وقام الوهابيون بإجبار المسلمين لاعتناق مذهبهم ، بل رفضوا دخول الحجاج العراقيين والايرانيين عام 1220 هـ فقد حسبوهم كفار ولا يقربوا الأماكن المقدسة وفي عام 1221 هـ منع الحجاج الشاميين ، وفى عام 1222 هـ منع الحجاج المصريين والمغاربة

اقتصر الحج على الوهابيين فى الجزيرة العربية ، فقد خشى أصحاب باقي المذاهب من الحج أن يتعرضوا للإيذاء على أيدي هؤلاء الذين يدعون أنهم يتقربون إلى الله بقتل الأبرياء من المسلمين لا لشىء إلا لمخالفتهم فى المذهب رغم أن الجميع مسلمون ، لذلك لم يحج أهل نجران (شيعة اسماعيلية) وأهل الإحساء والقطيف (شيعة إمامية) ، وأهل اليمن (شيعة زيدية) وأهل عسير (من المتصوفة) ، أما أهل الحجاز ومعظمهم شافعية المذهب فقد أخفوا عقيدتهم وامتنعوا عن الحج خشية القتل من الوهابيين الذين كانوا يسألون الناس عن اعتقادهم فى التوحيد ، ومن لا يقل بما جاء فى كتاب التوحيد تعرض للإيذاء وربما للقتل ولذلك كانت نهاية الدولة الأولى نهاية مأساوية حيث تم تدمير الدرعية تدميراً تاماً وقتل الأمير فى الآستانة

ثم قامت الدولة العثمانية بتعمير وتشييد ما هدمه الوهابيون فى مكة والمدينة ، فقاموا ببناء الأضرحة من جديد ، وترميم المساجد التى دمرها الوهابيون

 الدولة السعودية الثانية

يقول المؤرخ جون فيلبى فى كتابه " تاريخ نجد " : " إن الحافز السياسي لا الحماس الديني هو الذى أوجد الامبراطورية السعودية خلال حكم تركي وفيصل " وهى الفترة التى تسمى الدولة السعودية الثانية والتى بدأت حقيقة على يد الأمير تركي بن عبد الله عام 1820 ، أى بعد سقوط الدولة الأولى بعامين ، وانتهت فى عهد الأمير عبد الله بن فيصل عام 1884 ، وقد خلت هذه الدولة من أي نشاط ديني أو إصلاحي إذا ما استثنينا تنظيم (هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر) الدينية الرسمية ، لأن أفراد الأسرة السعودية كانوا مشغولين باستعادة ملك آبائهم فى البداية ، ثم شغلوا بالنزاعات البينية على الحكم فى منتصف الفترة ليصل الحكم إلى يد آل الرشيد معلناً نهاية الفترة السياسية السعودية الثانية

وفي تلك الفترة لم يكن للمؤسسة الدينية ذلك الدور القيادي الذي مارسته إبان الدولة السعودية الأولى ، ورغم وجود أبناء وأحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب مؤسس الحركة (ومن ضمنهم حفيدة عبد الرحمن الذى عاد من مصر عام 1825) ضمن مؤسسات الحكم وهم يمارسون نشاطهم فى مجالات الدعوة والقضاء ، إلا أن المؤسسة الدينية لم تكن فى وضع يسمح لها بتجاوز حدود النشاط الديني والمراقبة ، وهذا ما عناه جون فيلبى فى وصفه للدولة السعودية الثانية ، فلم تتجاوز الدولة خلال هذه الدولة حدود نجد ، وانحسر نشاطها السياسي فى الصراع على الأرض النجدية سواء بين أفراد الأسرة أو بينهم جميعاً وبين أسرة آل الرشيد وظل الحجاز بعيداً عن سيطرة السعوديين ، وربما كان ذلك من ضمن أسباب الانهيار السريع للدولة الثانية

عموماً كانت موارد الدولة الثانية السعودية من أنشطة مختلفة من ضمنها الذهب الذي أخذوه من المدينة المنورة أو من كربلاء ، وذلك الذى خلص إليهم بعد النهب الذى قام به أتباعهم

الدولة السعودية الثالثة 

يمكن اعتبار المرحلة الثالثة للصعود السعودي صعود للمؤسسة الدينية باعتبارها ضمن المؤسسات العامة التى تمكنت تسييس السلطة الدينية في اطار الأهداف الملكية المحافظة

واجهت الكيان الجديد فى قلب الجزيرة العربية عدة أحداث سياسية وعسكرية منذ قيامها أو صعودها عام 1902 ، إلا أن أخطر ما واجهه الملك عبد العزيز هو النقد والعصيان الصادر من جهات دينية وكانت أبرزها بل أخطرها مع قيادات " الإخوان السعوديين " وهم الذين حاربوا مع عبد العزيز تحت رايات دينية ومعهم بعض الشخصيات الدينية المحلية ، إلا أنه تمكن عام 1929 فى معركة " السبله " الشهيرة من حسم الصراع معهم وقتل أو أسر زعماء الاخوان وأهمهم الشيخ الدويش

وقد استثمر الملك عبد العزيز نصره على الاخوان وفرض قراراته على المنهزمين التى أعلنها فى وجود عدد من العلماء المقربين منه ومنهم الشيخان العنفري وابن زاحم ، ومن أبرز تلك القرارات

أنه لا يسمح بعقد اجتماعات لمناقشة الدين أو المسائل الدنيوية بدون موافقة من الملك ، وقد استمر ذلك القرار منهجاً متوارثاً ومقراً به من القيادات والمؤسسات الدينية السعودية المتعاقبة ، كما أنه شكل أساساً عاماً للعلاقة المقبولة لدى السلطة بالمؤسسة الدينية

كان الخلاف بين الاخوان والملك عبد العزيز خلافاً بين متطرف والأشد تطرفاً ، كان الاخوان يرون فى تنامي علاقات الملك عبد العزيز السياسية مع الدول الأجنبية خاصة بريطانيا خروجاً على الدين ، كما كانوا يرون فى استيراده للمنجزات العلمية الحديثة نوع من الردة ، فقد اعتقد الاخوان الهاتف والراديو من البدع الحديثة ، وأن عبد العزيز يسلك سلوك الكفار 

ولكن وعلى المستوى النظرة إلى الحجاز ، فقد توحدت نظرة ابن سعود والاخوان فقد اعتبر الجميع ان غيرهم من المسلمين مشركون ولو كان شركاً خفياً ، ولما استطاع عبد العزيز حكم الحجاز حتى اعتبر حكمه استقر بشرعية دينية  قام بتنفيذ الايديولوجية الغارقة فى السلفية ، فتم هدم أضرحة البقيع ، وقبر السيدة خديجة رضوان الله عليها ، وهدم البيت الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة المكرمة ، لم يفرق السعوديون حتى بين الأثر التاريخي والأثر الديني ، فقاموا بمحو كل ما يشير إلى وجود أماكن مقدسة فى مكة والمدينة ، فمثلاً سدوا غار حراء الذى كان يتعبد فيه النبي (ص) قبل البعثة ، ولو تمكنوا من هدمه لهدموه ، ولكن الغار فوق جبل حراء ، ولأنه لا يمكن هدم الجبل ، اكتفوا بسد الغار بصخرة كبيرة ، وهو ما حدث فى غار ثور ، وعند الأبواء حيث قبر السيدة آمنة أم رسول الله (ص) وهي فى الطريق بين مكة والمدينة

 عمارة السعوديين للحرمين الشريفين

استمرار للنهج التراثي فإن السعوديين منذ الملك عبد العزيز قاموا بتوسعة الحرمين الشريفين، ففي عهد عبد العزيز تم توسعة الحرم المكي بعد أن ضاق بالحجاج وزوار البيت العتيق لاسيما وقد انتشرت المنازل حول الحرم الشريف كما جعل الطرق المؤدية إليه عبارة عن أزقة وحواري ضيقة يجد الذاهب إلى البيت العتيق مشقة وعناءاً في سلوكها ، كما لم يكن حال المسعى أفضل من ذلك ، ففصلت المباني بينه وبين الحرم ، واخترقه الطريق فقامت على جانبيه الحوانيت وارتفعت فوقهما المساكن ، وقطع الباعه المتجولون قدسيه المسعى ، واختلط قاصد العبادة بقاصد الدنيا ، فتم إزالة البيوت وتوسعة المسجد ، ودامت التوسعة خلال عصر الملك عبد العزيز فى عصر الملك عبد العزيز في عصر الملك فيصل ، واستمرت في عهد الملك فهد

وحدث مثل ذلك فى المدينة المنورة حيث وسع مسجد رسول الله (ص) شملت المسجد النبوي ومسجد قباء ومسجد القبلتين ،واستمرت التوسعة من أول عهد عبد العزيز وحتى عهد الملك فهد

كما قامت الأسرة السعودية بتوسعة وتمهيد الطرق بين المشاعر المقدسة فى مكة المكرمة شملت منى والمزدلفة ، كذلك توسعة الطرق بين مكة والمدينة .. وكان للطفرة النفطية أثراً كبيراً فى الانفاق المستمر على الحرمين الشريفين 

السيطرة السعودية على الحرمين الشريفين .. العودة للتدمير من جديد

بعد أن ذكرنا باختصار ما قام به السعوديون في تعمير الحرمين الشريفين ظل السعوديون على قناعتهم أنهم يمثلون الإسلام الحقيقي ، أو أنهم يمثلون الإسلام نفسه بحكم إشرافهم على الأماكن المقدسة ، وقد قاموا بخطوات لترسيخ اقناع المسلمين بهذا المفهوم نلخصها في الآتى

أ- ما أن قام السعوديون بالسيطرة على الحجاز عام 1925 بعد معركتهم مع الاشراف ،اعتبروا المسلمين فى الطائف كفار يستحل قتالهم وقتلهم وسبيهم ، يقول أمين الريحاني 

ان الوهابيين كانوا يقتلون في سبيل السلب ، استنكر الملك عبد العزيز ما فعلوه ، ولكنه لم يحاسبهم بل ظلوا يقومون بما يفعلوه أما في مكة المكرمة قتلوا إمام الشافعية الشيخ الزواوي ، وأبناء الشيبي ، أما سادن الكعبة الشيخ عبد القادر الشيبي فقد أنقذ نفسه بحيله طريفة حيث بكى أمام الاخوان ، وقال لهم

"انني أحمد الله لأننى أموت مسلماً بعد أن ظللت كافراً حتى اليوم ، فتركوه وعانقوه وهنئوه بالإسلام من جديد" 

ب- فى عام 1927 قام الشيخ سلطان بن بجاد بإيذاء المسلمين فى المدينة المنورة وقام أتباعه بقطع الأشجار الموجودة بصحن المسجد النبوي وردموا البئر الذي قريباً منه ، وعاد عبد العزيز وأتباعه إلى سنة سلفه سعود الكبير فقاموا بهدم كل شىء من المساجد والأضرحة ، التى شيدها العثمانيون بعد القضاء على الدولة الأولى 

ثم هدموا البيوت مثل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم وبيت حمزة ، وبيوت أهل البيت والصحابة فى مكة والمدينة ، وإذا كانوا تعللوا فى هدم القبور بحجة مخالفتها لأصول التوحيد، فما هو العذر فى هدم البيوت التى لا يوجد فيها أضرحة يقول الريحاني 

ان الهدف من ذلك هو أن ينسى المسلمون ذكريات هذه البيوت وأصحابها بمرور الزمن

لقد أدى هذا التدمير المتواصل الى استنكار المسلمين كافة ، احتجت مصر وامتنعت عن إرسال الحجاج ، وفى إيران أقيمت مراسم الحداد أما مسلمو الهند (وكانوا يحتلون العدد الأكبر من المسلمين عندما كانت الهند موحدة قبل أن توجد باكستان والبنجال) ، فقد هالهم ما حدث، فقام العلماء هناك بإرسال برقية احتجاج صارخة فى 27/8/1925 ، ويقولون للملك عبد العزيز كيف هان عليك الإسلام لتفعل فيه ما فعلت ، وعندما وجدوا أن البرقية لم تؤثر في المسلك الوهابي / السعودي ، قام وفد تابع لجمعية خدام الحرمين فى الهند بزيارة مكة والمدينة وجاءوا بنقود وأموال كثيرة لتوزيعها على المسلمين الذين قتل ذووهم أو شردوا من ديارهم ، وانتقدوا مسلك عبد العزيز مع الانجليز واعتبروا تحالفه معهم يجعل الحرمين تحت سيطرة لانجليز ، فقام الملك عبد العزيز بطرد الوفد فى 1/3/1926

ولم يجد مسلمو الهند بدءاً من الشكوى للحكومة البريطانية ، ولكن اعتذرت بأن هذا من الشئون الداخلية الإسلامية التى لا يجب التدخل فيها ولكن الملك عبد العزيز وقد رأى امتعاض المسلمين ، أعلن ان تطبيق الشريعة الإسلامية ستكون طبقاً للمذاهب الأربعة ، ولكن مؤتمر مكة عام 1926 ثم مؤتمر الرياض عام 1927 فرض المذهب الوهابي وحده ، ومحاربة أصحاب باقي المذاهب ، ومنع تدريس هذه المذاهب باعتبارها مخالفة لدين الإسلام ، وفرض على المناهج الدراسية عقيدة التوحيد كما يراها شيوخ الوهابية وكما وردت فى كتب ابن تيمية، ودامت هذه النظرة الوحيدة القاصرة هي المطبقة على التعليم السعودي حتى الوقت الراهن ، ولم نكتف بذلك بل عملت على تصدير هذه الرؤية إلى باقي الدول الإسلامية مستغلة الطفرة النفطية والانفاق على الحرمين ، وهذا ما سنراه لاحقاً

ج - استغلت السلطة السعودية مدفوعة بقناعاتها الوهابية موسم الحج فقامت بالترويج للمذهب الوهابي وذلك بطبع الكتب التى تبشر به وتندد بالمخالفين لهم فى توجيهاتهم مثل كتب: الرد على المالكي الصوفي - فتنة التكفير والحاكمية - شرح العقيدة الواسطية - اعادة طبع الكتاب عشرات المرات وتوزيعه مجاناً على المسلمين - فتاوى ابن باز التى تجعل كل المسلمين دونهم مشكوك فى صحة إسلامهم – إلى اعادة كتب ابن تيمية المرجع الأول للفكر الوهابي بصفة عامة " كنت قبورياً - الرد على فتنة التيجانية - الخطوط العريضة - العواصم من القواصم " وغيرها 

د - رفض السعوديون رفضاً مطلقاً أي تدخل إسلامي في مناسك الحج من غير شيوخ المملكة ، فشيوخ المملكة هم المرشدون لحجاج بيت الله الحرام والتوجه الى المسلمين بالفتاوى التى تتفق مع الأيديولوجية السلفية كما يرونها ، كما لم تشهد خطبة نمرة يوم عرفه أي شيخ من خارج المملكة ، علماً بأن معظم خطباء غزة من نسل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ولا يكف الخطيب عن الترويج للإسلام الصحيح من وجهة نظره ، أو وجهة النظر الوهابية بصفة عامة

أما المرشدون من الشيوخ لحجاج بيت الله الحرام لا يكفون عن ربط هذه الفتاوى بحرمة الاقتراب من قبر الرسول (ص) بناء على فتوى ابن تيمية الشهيرة التى أوردها فى كتابه "التوسل والوسيلة " والتى تنص على أن زائر المسجد النبوي إن كان قاصداً لقبر النبي وليس للمسجد فيه نوع من الشرك ، ورغم أن هذه الفتوى حوكم بها ابن تيمية ، ويرفضها أغلب المسلمين ، إلا أن شيوخ المملكة يحرصون على تطبيقها فيمنعون الاقتراب من القبر الشريف رغم تهافت المسلمين عليه ، وواقعة خطبة الشيخ عبد الرحمن الحذيفي فى خطبة الجمعة التى كفر فيها الشيعة وذلك فى حضور هاشمي رافسنجانى الرئيس الإيراني وقتها جعلت من رفسنجاني يخرج من المسجد غاضباً ، وسبب ذلك توتراً سياسياً تداركته السلطة السعودية بمنع الشيخ الحذيفي من خطب الجمعة في المسجد النبوي

على العموم فالسعوديون رأوا فى أي خلاف فقهى خلاف عقائدى فحاربوا الشيعة والمتصوفة والأباضية فى خطب المساجد أثناء موسم الحج ، مما أثار غضب هؤلاء المسلمين ، رغم أن الأمام الخميني أفتى بضرورة صلاة الشيعة خلف إمام الحرم فى مكة والمدينة ، ولكن ذلك لم يشفع لشيوخ المملكة للكف عن نقد وسب الشيعة والمتصوفة باعتبار الأولين من الروافض والآخرين مشركون ، بل ان الشيخ محب الدين الخطيب اعتبر المذهب

الشيعي دينا مستقلا كما ظهر فى عنوان كتابه " الخطوط العريضة للدين الشيعي " لم يترك نعتا سيئا إلا أطلقه على الشيعة ، كما حاربوا التيجانية والبرهانية والدسوقية والأحمودية وكلها طرق صوفية توحد الله وتأخذ علم التصوف طريقاً إشراقياً معروفاً لكل من سلكوا الطريق الذوقي فى العبادة والعزلة، رغم أن الجميع موحدون بالله متمسكون بثوابت الإسلام من الصلاة والصيام والزكاة وحج بيت الله الحرام

هـ - أدى الاقتصار على شيوخ المملكة كمرشدين للحجاج أنهم لا يكفوا عدد الحجاج الذين يصل عددهم إلى ثلاثة ملايين ، فمثلاً عند رمى الجمرات فى منى يتدافع المسلمون لكي يرموا الجمرات في وقت الزوال دون أن يكون بينهم من يرشدهم على فتاوى أن يظل رمى الجمار حتى لو كان ليلاً فأدى التكدس البشري الى حوادث متكررة عند المشاعر المقدسة في منى ، ومنها الحادث الأخير (2005) الذى أدى تزاحم الحجاج إلى مصرع المئات منهم بسبب التزاحم الهائل دون أن يكون بينهم من يقنعهم بأن رمى الجمار يستمر حتى الليل ، ليس ذلك فقط فإن عودة الحجاج فى الطرق المؤدية للمشاعر الأخرى وتكدسهم ان تحدث حوادث أخرى مثل حادث نفق المعيصم الذي راح ضحيته مئات من حجاج البيت الحرام ، علماً بأن فتاوى أخرى من خارج المذهب الحنبلي مثل المذهب الشافعي أو الحنفي أو المالكي أو الشيعي الزيدي أو الامامي تستطيع أن تلبى رغبة المسلمين الذين يأخذون بهذه المذاهب ، ويمكنها التخفيف من هذه الحوادث ، ولكن حرص شيوخ المملكة على فرض مذهبهم يزيد من هذه المشاكل الفقهية التى تؤدى إلى كوارث يروح ضحيتها حجاج كثيرون 

ز - قامت المملكة بناء على توصيات منظمة المؤتمر الإسلامى بتحديد نسب الحجاج من كل دولة حيث أصدرت المنظمة أن عدد حجاج أي دولة يكون بأن كل مليون نسمة نسبة الحجاج منهم ألف حاج ، وقد صدر هذا القرار بناء على اقتراح سعودي ليقلص عدد الحجاج لأن بعض الدول لا يحج فيها مثل هذا العدد ، ودول أخرى تحتاج إلى أكثر من نسبتها المقررة ، ولكن حكومة المملكة التزمت مع الدول بالنسب التى حددها المؤتمر ، هذا فى حالة وجود حجاج ، أما فى الدول التي لا يأتي منها حجاج حسب حصتهم فإن المملكة لا تعطى هذه النسب الى الدول الكبيرة التى يرغب الكثيرون من أبنائها فى الحج

ح - قامت وتقوم حكومة المملكة بعدم اعطاء تأشيرات حج للبعض المخالف لها سياسياً أو مذهبياً ، فمنعت الحجاج العراقيين (سبعة آلاف حاج) من الحج ، وزعمت مرة بأنهم فوق حصة العراق ، وعندما ثبت عدم صحة هذا الادعاء ، قالت بأن حكومة العراق تقوم باختيار الحجاج على أسس طائفية واعتبرت شيعة العراق يؤدون الحج أكثر من السنة ، رغم عدم احتجاج السنة ، ورغم صمتها عندما كان صدام حسين يمنع الشيعة من الحج

لقد أدى ذلك إلى وجود نداءات لتدويل هذه الأماكن المقدسة ، وعدم احتكار السعودية للإشراف والتقييم واعطاء أو منح تأشيرات الحج 

 التدويل بين التأويل السياسي والتنزيل الديني

من عرضنا السابق يتضح أن سلطة المملكة العربية السعودية على الحجاز بأماكنه المقدسة أعطته قداسة دينية وشرعية سياسية ، وأسهم التدفق النفطي على المملكة لتبشر بالوهابية داخل المملكة وخارجها ، فقامت بدعم أنشطة جماعات أنصار السنة، ومولت جماعة الاخوان المسلمين فى مصر وباقي البلدان المتواجدين فيها ، كما بنت المساجد فى البلاد الإسلامية الفقيرة ، فوجدت صدى لدعوتها خاصة وأن حجاج بيت الله الحرام من العوام يرون توسعات الحرم المكي والمدني اعتقدوا بأن السعوديين يمثلون الإسلام ، لأنهم لا يعرفون خلفيات المشهد الدينى / السياسي لمذهب المملكة الذى ذاع وانتشر وكان نواة حركات التطرف والارهاب والقتل على أسس عقائدية 

كل هذه الأسباب جعلت الأصوات المنادية بتدويل الأماكن المقدسة تخفت وسط الهالة الدعائية السعودية ، ربما الصوت الوحيد الذى طالب بهذا التدويل هو العقيد معمر القذافي 

واذا أضفنا علاقة المملكة التاريخية بالولايات المتحدة الأمريكية واعتمادها على التسليح الأمريكي منذ عهد الملك عبد العزيز ، وما تملكه أمريكا من ضغوط هائلة على معظم الدول الإسلامية يمنعها من مثل هذه المطالبة ، وهذا يتفق بطبيعة الحال مع الأنظمة التى تحكم الدول الإسلامية ، فأغلبها أنظمة تتشابه مع النظام السعودي ولها علاقات طيبة معه هذا يضاف إلى رصيد المملكة الداعم لشرعية سيطرتها وإداراتها على الأماكن المقدسة

فمثلاً عندما نجحت الثورة الإسلامية فى إيران ، أفتى الامام الخميني بصحة صلاة المسلمين الشيعة خلف إمام الحرم المكي أو المدني ، وفتوى الامام الخميني انطلقت من الحرص على وحدة المسلمين وعالمية الثورة الايرانية ، ولكنها كذلك خدمت الاتجاه السعودي فى الحفاظ على مكانته وادارته للأماكن المقدسة فى الحجاز

التداعيات الدولية

جاءت أحداث الحادى عشر من سبتمبر - أيلول عام 2001 ضد برجي التجارة في نيويورك ومبنى البنتاجون فى واشنطن لتضرب الاستقرار الأمريكي الذى ظن قادته أن الاعتماد على الأنظمة الاستبدادية يخدم أهدافها فى المنطقة العربية والإسلامية

وأدت هذه الهجمات إلى قيام الولايات المتحدة الأمريكية بالهجوم على أفغانستان والعراق واحتلال أراضيهما ، وقام نخبة من المثقفين الأمريكيين بمخاطبة علماء المملكة عن الفكر الذى تعتنقه الجماعات التى ضربت أمريكا ، هل هو الإسلام ، وإذا لم يكن الإسلام ، فما هو هذا الفكر؟ والحقيقة أن علماء المملكة لم يستطيعوا الاجابة المنطقية على هذا السؤال ، ربما لأن المذهب الوهابي هو الذى يتبنى المنهج الخارجى (نسبة إلى الخوارج) والذي يستبيح دم المخالف فى الرأي أو الاعتقاد ، وعلى العموم أدت الهجمة الأمريكية على المنطقة إلى ضعف القبضة النظامية فى المملكة وباقى الدول الإسلامية

فى السعودية خفت الضغوط نوعاً ما عن الشيعة فى المنطقة الشرقية وفي منطقة نجران حيث يسود المذهب الشيعي الاسماعيلى ، كما ظهر اتجاه شبه ليبرالي فى الأوساط الثقافية السعودية، وزادت الضغوط السعودية على العلماء الذين اشتهروا بالفتاوى القاسية على المخالفين فى الرأي ، أدى هذا جميعه إلى مناداة البعض بضرورة تغيير اسم المملكة ، فليس من المنطقي أن تسمى دولة على اسم مؤسسها ، فهذا قد يصلح فى العصور الوسطى حيث كانت الدول تسمى باسم أجداد مؤسسيها مثل الدولة الأموية والعباسية والعثمانية ، ولكن فى هذا الزمن لا يصلح مثل هذا المفهوم ، وطالب البعض بإطلاق اسم مملكة شبه الجزيرة العربية ، أو مملكة الجزيرة ، أو غيرها من الأسماء الجغرافية التى تدل على المنطقة

وبسبب تلك التداعيات السياسية الدولية ، جاءت الدعوة لتدويل الأماكن المقدسة فى الحجاز ، وهذه الدعوة تقوم لعدة أسباب منها ما يلي

ًأولا

 الإسلام له عدة مذاهب هى المذاهب السنية الأربعة والمذهب الشيعي الامامي والزيدي بالإضافة إلى المذهب الأباضي ، وجميع هذه المذاهب تستقى من القرآن الكريم ومن السنة النبوية الشريفة كل حسب تفسيره للقرآن ، ومدى صحة الأحاديث من وجهة نظر الآخذين بها، وهى على العموم تشترك فى الأصول الثابتة مثل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول والصلاة والزكاة والصوم والحج والإيمان بالغيب والملائكة والرسل السابقين 

ومن هنا فإن فرض وجهة نظر واحدة على مهبط الإسلام وأصله أمر ينافى منطق الرسالة الإسلامية ، وحجر على المذاهب الأخرى خاصة وأن الوهابية تختلف مع كل المذاهب السبعة، أى أنها تعمل على منابذة الجميع عندما قامت بهدم الآثار المقدسة التى سار عليها النبي الكريم وآله وأصحابه وزوجاته وبناته ، من الأمور التى يجب الوقوف ضدها  والعمل على إعادة الأماكن المقدسة التي هدمت إلى سابق عهدها ورد الاعتبار إليها ، وهذا لا يتأتى إلا بإشراف إسلامي عام على الأماكن لتستمر قدسيتها ويستطيع المسلمون على اختلاف مذاهبهم إدارتها والإشراف عليها

ثانيا

 من الناحية الجغرافية ليس من الضروري أن تكون للسلطة السعودية وجودها الدائم ، ويمكن أن يكون للحجاز شبه حكم ذاتي له سلطة مستقلة وموارد اسلامية متجددة ، وذلك لخلاص رابطة العالم الإسلامي مثلاً من الهيمنة السعودية الوهابية ، فلقد ظل الحجاز حتى وهو تحت السيطرة العثمانية شبه حر ومفتوح أمام المسلمين ، صحيح أن الدعاء للخليفة العثماني كان يمنحه شرعية الحكم ، ولكن ظل الحجاز مفتوحاً أمام جميع المسلمين لزيارته أو الاقامة فيه لمن يريد الاستقرار الدائم بجوار الحرمين الشريفين ، وكانت المذاهب السنية الأربعة ممثلة فى الحرم المكي والحرم المدني ،كما كان الشيعة عموماً – رغم التضييق فى بعض الأحوال – يؤدون مناسك الحج دون أن يرغمهم أحد في التخلي عن مذهبهم أو الطعن فيه، فضلاً عن الإيذاء والسجن أو الإبعاد أو المنع من الدخول ، وهذا لا يمكن إلا فى ظل سلطة إسلامية عاملة تمثل كل المسلمين تمثيلاً صحيحاً 

ثالثاً

3- من الناحية الدينية يمكن لمكة المكرمة أن تكون عاصمة روحية لكل المسلمين ، عاصمة روحية بمعنى أن تكون فيها المرجعيات الدينية على اختلاف مذاهبها ، ومن هذه المرجعيات يمكن تكوين مرجعية دينية واحدة تقوم بالعمل على وحدة المسلمين المذهبية ، شريطة أن يكون هؤلاء العلماء من خارج المؤسسات الدينية الرسمية فى البلاد الإسلامية حتى لا تكون للخلافات السياسية آثاراً على هؤلاء العلماء ، وليس فى ذلك عودة إلى سلطة الفقهاء على النهج البابوي الكاثوليكي فى الفاتيكان ، ولكن وجود المراجع الإسلامية فى مكة أو المدينة بإشراف إسلامي عام يكون مقدمة للتقارب بين المسلمين 

أى الخروج بصيغة التوفيق بين التنزيل الديني والتأويل السياسي ، فلا يستبد الحكام بالمسلمين بفتاوى علماء السلطة الذين يبررون المظالم ويروجون لطاعة السلطان حتى لو جاء إلى السلطة بدون أى شرعية سياسية 

اقتراحات التدويل 

ثمة بعض المقترحات الهامة للتدويل الاسلامي لمكة والمدينة منها

 أن تقوم كل دولة إسلامية بالإشراف على الحج كل عام بالتناوب فيما بينهم ، وهو اقتراح صعب التحقيق ، لأن الإشراف معناه أن يكون للدولة سيطرة على الشرطة والجيش والأمن، وهذه كلها لا تتحقق الا للسعودية لأنها جغرافيا وتاريخيا تسيطر عليها وشرطتها وجيشها هو الذي يتواجد فى مكة والمدينة ، ووجود سلطة غير سعودية يكون أوامرها ملزمة لن تتحقق كما يريد أن يقنعنا من يقول بعملية تناوب الاشراف

واقترح البعض أن تأتى الدولة المشرفة بالشرطة والجيش عندها وتقوم هي بالانفاق والاشراف، وهذا نوع من المستحيلات ، فكيف يأتى أفراد من الشرطة أو الجيش من إحدى الدول الإسلامية لتقوم بالانتشار فى أراضي لم تستقر عليها الا لبضعة أشهر ثم العودة ، ليعود شرطة من دولة أخرى وهكذا

هذا الى جانب أن المشكلة التى من أجلها حدث التناوب ستظل قائمة ، فكل دولة ستحاول أن تروج لمفهومها الديني والسياسي أثناء موسم الحج ، لتنتقم الدولة الثانية من الأولى إذا حدث ما يستوجب هذا الانتقام مثل النيل من المذهب أو الترويج للنظام ، وهنا نرى هذا الاقتراح غير عملي لأنه غير منطقي 

 يقترح آخرون أن يستقل الحجاز سياسياً ، أى يكون دولة مستقلة له حكومة مستقلة ، ولا بأس أن تنضم هذه الحكومة للجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وهيئة الأمم المتحدة ، وهذا الاقتراح سيجد صعوبات حقيقية ، منها كيف يستقل الحجاز ، وهل سيكون أهل الحجاز أنفسهم هم قادة الدولة أو مشكلي نظامها ، وإذا حدث هذا فسيكون لهذه الحكومة المستقلة اتجاهها المذهبي كذلك سواء استمر الفكر الوهابي أو أى فكر غيره يعتقد أنه الفرقة الناجية الوحيدة  كما أن مثل هذه الدولة لن تكون بعيدة عن الأثر السياسي والمذهبي للدولة السعودية بحكم الجغرافيا ، كما ستحدث مشكلة موارد تلك الدولة المستقلة ، هل ستقوم المملكة بالتمويل لأن الحجاز أصلاً فقير فى موارده الطبيعية ، أم سيكون التمويل من الدول الإسلامية مجتمعة بحصص محددة تقوم كل دولة بدفعها إلى الحكومة المنتظرة

وهذه المشكلة رغم أنها أسهل المشاكل لكنها على كل حال ستأتى بنفوذ الذين يدفعون أكثر من غيرهم ، وقد تتعقد المشاكل ويتوقف التمويل إذا انحازت الحكومة لأحد المذاهب أو لإحدى الدول ولكنه على العموم اقتراح أسهل من الاقتراح السابق ، كما انه ليس الاقتراح الوحيد للرد على سابقه

3- هناك اقتراح ثالث يتلخص أن يكون للحجاز سلطة سياسية روحية بعيدة كل البعد عن الأنظمة الإسلامية ، أى يتم اختيار العلماء لهذه الدولة لتكون محل إقامة وسكن دائم ، على أن يكون هؤلاء العلماء ممن تنطبق عليهم شروط الاجتهاد ، وهم فيما نعرف ربما لا يصل عددهم إلى العشرين أو الثلاثين عالماً من كل المذاهب ، وهؤلاء العلماء ينتخبون من أنفسهم من يحكم الحجاز على أساس أنه مهبط الإسلام وأصله 

وهذا الاقتراح قد يؤدي إلى ما يشبه سلطة الفاتيكان بما فيه من كهانه وكهنة وسدنه وكهنوت، والإسلام ليس فيه من هذه الأشياء أى شىء ، فالإسلام يمكن اعتباره دين جماهيري ليس فيه أسرار أو كهانه أو تقليد ، فكل إنسان له حق الاجتهاد فى حدود امكاناته الدينية والعقلية ، وإذا لم يستطع يمكنه تقليد أحد العلماء ، وهو ما يحدث في كل المذاهب ، ولكن ذلك لا يعني عصمة العلماء

إن مثل هذه الحكومة مهددة بالتحول إلى المفهوم الأيديولوجي للكهانة الدينية ، ولا يحبذه الكثيرون

4- وهناك اقتراح يجمع بعض ما فى المقترحات الثلاثة ، وهو أن يكون للحجاز سلطة سياسية مستقلة بأي نوع من أنواع الاستقلال ، وتكون هذه السلطة إدارية فقط تشرف وتدير المشاعر المقدسة وتخدم الحجيج جميعاً ، ولا تمنع مسلماً من دخول الأراضى المقدسة وتطلق الحرية للمسلمين في الالتقاء والحوار والمناقشات العلمية وذلك بإشراف السلطة السياسية التي لا تنحاز لأحد،وهو اقتراح قد يبدو عمليا ، ولكن تبقى بعض المشاكل مثل من يحكم الحجاز، هل الحجازيون أم يكون من خارج بلادهم وكذلك وموارد الدولة وغيرها من الأمور السياسية

لكن من الممكن ان يكون الحجازيون هم أهل السلطة ، أما مجالس الشورى فإنهم يكونون ممثلين للدول المختلفة والمذاهب المتعددة ، كما يمكن حل مشكلة التمويل عبر وجود إيرادات دائمة إما بحصص من الدول الإسلامية ، أو بدفع اشتراكات مستحقة على كل دولة فى مواسم الحج

التدويل .. الفكرة المنتظرة 

على العموم فإن كل الاقتراحات يمكن دراستها فى منظمة المؤتمر الإسلامي أو في رابطة العالم الإسلامي ، وإرسال هذه الاقتراحات الى المؤسسات الدينية فى الأزهر والزيتونة والنجف الأشرف وغيرها من الجامعات والمؤسسات الدينية لمناقشتها ووضع الاقتراحات العملية لها

ولكن كل ذلك مرهون بقبول الدولة السعودية لمناقشة هذه الاقتراحات من الأصل أو حتى التفكير في اعلانها ؛ يساعدها فى ذلك معظم الأنظمة الإسلامية حتى وغير الإسلامية ، كل حسب برامجه السياسية وطاقاته الدينية وغير الدينية

ورغم شبه استحالة ذلك ، فإن التفكير فيه ثم الجهر به ، ومناقشته في الحوزات العلمية والمنتديات السياسية والجامعات الدينية يؤدى إلى تشكيل قوة ضاغطة على الأنظمة المختلفة لطرحه على مائدة النقاش 

الطريق طويل وصعب ، ولكنه غير مستحيل ، وهو إحدى الوسائل لكبح الاستبداد والانفراد السعودي على الأماكن المقدسة ، وأهم البدائل لوحدة المسلمين الفكرية والدينية المذهبية والسياسية لذلك  وهو من أهم يستحق عناء التفكير والبحث والدراسة وبذل المال والجهد ، لأنه مشروع الإسلام نفسه